تقسيم القواعد القانونية إلى قواعد آمرة وقواعد مكملة:
أولاً: القواعد الآمرة:
القواعد الآمرة عبارة عن مجموعة القواعد القانونية التي تتعلق بكيان الدولة وبالمصالح الأساسية فيها، بحيث لا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفها.
فمثلاً القواعد القانونية التي تحرم القتل والسرقة والصنب...الخ هي قواعد آمرة لا يجوز للأفراد مخالفتها بأي اتفاق، لذلك يقع باطلاً الاتفاق بين شخصين على قتل شخص ثالث أو سرقته مقابل مبلغ من النقود. كما تعتبر القواعد القانونية المتعلقة بالزواج قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على مخالفتها لذلك يقع باطلاً اتفاق الزوجين على أن ينسب الأولاد إلى الزوجة او على أن يكون حق الطلاق للزوجة وليس للزوج...الخ.
ثانياً: القواعد المكملة (المفسرة):
القواعد المكملة عبارة عن مجموعة القواعد القانونية التي تنظم مصالح الأراد ولا علاقة لها بالمصالح الأساسية للدولة، لذلك يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفها.
والقواعد المكملة قواعد ملزمة كغيرها من القواعد القانونية ولكن من شروط انطباقها ألا يوجد اتفاق بين الأفراد على ما يخالفها. وقد أجاز القانون للأفراد الاتفاق على ما يخالف القواعد المكملة نظراً لتعلقها بمصالح خاصة بالأفراد ولا علقة لها بمصالح عامة للدولة.
ومن الأمثلة على القواعد القانوينة المكملة القواعد التي تحدد زمان ومكان التسليم في عقد البيع والقواعد التي تحمل المشتري مصروفات عقد البيع، حيث تنص المادة (458) من مشروع القانون المدني الفلسطيني على أنه: 1. يقضتي البيع تسليم المبيع في محل وجوده وقت العقد ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك..."، وتنص المادة (490) منه على أنه: "إرا لم يعين الاتفاق أو العرف مكاناً أو زماناً لتسليم المبيع وجب على المشتري أن يتسلمه في المكان الذي يوجد فيه وقت البيع وأن ينقله دون إبطاء إلا ما يقتضيه النقل من زمن"، وتنص المادة (494) منه على أنه: "نفقات تسليم الثمن وعقد البيع وتسجيله تكون على المشتري ونفقات تسليم المبيع على البائع، ما لم يوجد اتفاق أو نص أو عرف يقضي بغير ذلك".
ومن القواعد القانونية المكملة كذلك القاعدة التي تلزم المؤجر بالقيام بجميع الترميمات الضرورية للعين المؤجرة، حيث يجوز الاتفاق على أن يتحملها المستأجر، والقاعدة التي تلزم المؤجر بالتكاليف والضرائب وتلزم المستأجر بثمن الغاز والكهرباء للعين المؤجرة، فل هذه القواعد تسري ما لم يتفق الطرفان على ما يخالفها، وهذا ما نصب عليها المادة (621) من مشروع القانون الفلسطيني، حيث جاء فيها: "1. يلتزم المؤجر بصيانة العين المؤجرة لتبقى على الحالة التي سلمت بها وأن يقوم في أثناء الإجارة بجميع الترميمات الضرورية دون الترميمات التأجيرية، وعليه أن يجري الأعمال اللازمة للأسطح والآبار ومصارف المياه. 2. يتحمل المؤجر التكاليف والضرائب المسحقة على العين المؤجرة ويلزم بثمن المياه إرا كانت تقدر جزافاً فإذا كانت تقدر بالعداد التزم بها المستأجر، أما ثمن الكهرباء والغاز وكل ما خلص بالاستعمال الشخصي يتحمله المتسأجر. 3. تسري أحكام الفقرتين السابقتين ما لم يوجد نص أو اتفاق يقضي بغير ذلك".
ثالثاً: معيار التفرفة بين القواعد الآمرة والقواعد المكملة:
يوجد معياران من خلالهما يمكن معرفة كون القاعدة القانونية التي نحن بصددها قاعدة آمرة أم قاعدة مكملة:
1- المعيار الأول: معيار شكلي:
بمقتضى هذا المعيار يستدل على كون القاعدة القانونية قاعدة آمرة أم قاعدة مكملة من خلال صياغة النص أي ألفاظه وعبارته بحيث إذا دلت صياغة النص على أنه لا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفه نكون أمام قاعدة آمرة، وإذا دلت صياغة النص على أنه يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفه نكون أما قاعدة مكملة.
2- المعيار الثاني: معيار موضوعي:
يتم اللجوء إلى المعيار الموضوعي عند عجز المعيار الشكلي عن تحديد كون القاعدة القانونية قاعدة آمرة أم قاعدة مكملة، أي إذا لم تفيد صياغة النص في التوصل إلى نوع القاعدة القانونية. ويعتمد المعيار الموضوعي على فكرة النظام العام والآداب العامة، بحيث إذا تعلق النص بالنظام العام أو الآداب العامة فإنه يعتبر نص آمر لا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفه، أما إذا لم يتعلق النص بالنظام العام أو الآداب العامة فإنه يعتبر نص مكمل يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفه، وهذا يقتضي توضيع المقصود بفكرة النظام العام والآداب العامة على النحو التالي:
أ. مفهوم فكرة النظام العام والآداب العامة:
يقصد بالنظام العام مجموع المصالح الأساسية التي يقوم عليها كيان المجتمع سواء كانت مصالح سياسية أو اجتماعيةأو اقتصادية. حيث تقوم فكرة النظام العام على أساس المصلحة العامة والتي يقصد بها كل ما يتعلق بالنظام الأساسي للمجتمع، مما يعني وجوب احترام الأفراد لكل ما يتعلق بالنظام العام حتى ولو ضحوا بمصالهم الخاصة، وكل اتفاق خاص بينهم يخالف النظام العام يقع باطلاً لا أثر له.
ويقصد بالآداب العامة مجموعة القواعد القانونية الخلقية السائدة في المجتمع في زمن معين. لذلك تعتبر فكرة الآداب العامة الشق الخلقي من فكرة النظام العام.
وفكرة النظام العام والآدابا لعامة فكرة مرنة ونسبية ومتطورة، فهي تختلف من مجمتع لآخر ومن عصر لآخر وفقاً للأفكار السائدة في المجتمع، فما يعتبر مخالفاً للنظام العام والآداب العامة في مجتمع معين قد لا يعتبر كذلك في مجتمع آخر، وما يعتبر اليوم مخالفاً للنظام العام والآداب العامة قد لا يعتبر كذلك في المستقبل، فمثلاً تعدد الزوجات يعتبر أمراً مباحاً في الدول العربية ولا يخالف النظام العام والآداب العامة، بينما يعتبر جريمة في الدول الأوروبية لكونه يخالف النظام العام والآداب العامة، ونظام الرق كان أمراً مبارحاً إلا أنه أصبح اليوم مخالفاً للنظام والآداب العامة وغير جائز، والتأمين على الحياة كان يعتبر مخالفاً للآداب العامة إلا أنه أصبح اليوم أمراً مشروعاً، وهكذا يتضح أن فكرة النظام العام والآداب العامة تختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر تبعاً للأفكر المعتنقة في المجتمع، كما أن للاعتبارات الدينية تأثيرها الواضح في هذا المجالل.
ب. تطبيقات على فكرة النظام العام في نطاق القانون العام:
* تعتبر قواعد القانون الدستوري من النظام العام نظراً لتعلقها بنظام الدولة والحقوق والحريات العامة للأفراد كحق الترشيح وحق الانتخاب وحرية العقيدة وحرية العمل والتجارة وحرية الزواج وحرية التنقل والحرية الشخصية....الخ. وبناءً عليه فإن الاتفاق بين المرشح والناخب على أن يدلي الأخير للأول بصوته اتفاق باطل، وإذا اتفق شخص مع آخر على ألا يتزوج مطلقاً مقابل مبلغ من المال فإن هذا الاتفاق باطل لا أثر له، وإذا تفاق شخص مع آخر على أن يتنازل له عن حريته في التنقل أو حريته الشخصية فإن هذا الاتفاق باطل.
* تعتبر قواعد القانون الإداري من النظام العام نظراً لتعلقها بعمل السطلة التنفيذية وإدارة المرافق العامة. وبناءً عليه فإن الاتفاق بين الموظف وشخص آخر على ان ينزل الموظف عن وظيفته للشخص الآخر يقع باطلاً، وكذلك الحال بالنسبة للاتفاق بين الموظف وشخص آخر على أن يحابيه الموظف في عمل يتعلق بالوظيفة مقابع مبلغ من المال.
* تعتبر القواعد القانونية المالية من النظام العام نظراً لتعلقها بمصلحة عامة للدولة تتمثل بضراب ورسوم مستحقة لها على الأفراد. وبناءً عليه فإن الاتفاق بين البائع والمشتري على ثمن أقل من الثمن الحقيق بهدف تخفيض رسوم التسجيل المستحقة للدولة يعتبر اتفاقاً باطلاً لا أثر له ويعتد بالثمن الحقيق في تقدير الرسوم.
* تعتبر قواعد القانون الجنائي من النظام العام نظراً لتعلقها بحفظ النظام والأمن العام داخل المجمتع، وبناءً عليه فإن الاتفاق بين شخصين على أن يقوم أحدهما بارتكاب جريمة مقابل مبلغ من المال يدفعه الأخر يقع باطلاً لا أثر له، كما لا يجوز للأفراد الاتفاق على اعتبار فعل معين مجرم رغم أن القانون لا ينص على تجريمه حيث لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.
ج. تطبيقات على فكرة النظام العام في نطاق القانون الخاص:
قواعد القانون الخاص قد تتعلق بالأحوال الشخصية أو بالمعاملات المالية. والقواعد المتعلقة بالأحوال الشخصية تتعلق في غالبها بالنظام العام نظراً لتعلقها بمصالح عامة وبنظم أساسية في المجتمع، فمثلاً لا يجوز النزل عن الأهلية أو تعديل أحكامها ولا يجوز الاتفاق على تعديل حقوق الأب في تربية ابنه ولا حقوق الزوج على زوجته في الطاعة ولا حقوق الزوجة على زوجها في النفقة، ولا يجوز الاتفاق على أن يكون حق الطلاق في يد الزوجة بدلاً من الزوج، كما تعتبر القواعد المتعلقة بالميراث والوصية من النظام العام لذلك يقع باطلاً الاتفاق على حرمان شخص من الميراث أو تعديل الحد الجائز الإيصاء به.
نخلص إلى أن القواعد القانونية المتعلقة بالولاية والأهلية والزواج والميراث والوصية تعتبر من النظام العام ولا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفها، وإرا فعلوا ذلك فغن هذه الاتفاقات باطلة لا أثر لها. حيث تعتبر كل هذه القواعد قواعد قانونية آمرة لتعلقها بالنظام العام ولا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفها.
أما القواعد المتعلقة بالمعاملات المالية فإنها في غالبها لا تتعلق بالنظام العام، نظراً لتعلقها بمصالح خاصة بالأفراد وعدم مساسها بالمصلحة العامة. وبذلك فإن مبدأ سلطان الإرادة يلعب دوراً كبيراً في إطارها، وقد سبق بيان العديد من هذه القواعد التي لا تعتبر من النظام العام ولا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفها. كما يوجد قواعد تدخل في إطار المعاملات المالية وتتعلق بالنظام العام نظراً لمساسها بمصالح عامة وبأمن المجتمع ونظامه، ومنها القواعد القانونية المنظمة لعقد العمل، حيث يقع باطلاً كل اتفاق يبتقص من حقوق العامل الواردة في قانون العمل أو يبنتقص من الحماية المقررة له، وبذلك فإن هذه القواعد تعتبر قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على ما يخالفها، ومن ضمن هذه القواعد كذلك القواعد القانونية المنظمة لعقد الإيجار، حيث لا يجوز الاتفاق على الانتقاص من الحماية المقررة للمستأجر في قانون الإيجار، وكذلك القواعد المنظمة لحق الملكية...الخ. وتتعلق قواعد قانون المرافعات المدنية والتجارية بالنظام العام، وعليه يقع باطلاً الاتفاق على اختصاص محكمة معينة بنظر النزاع على خلاف ما يقضي به قانون المرافعات أو الاتفاق على تنفيذ الأحكام بطريقة تخالف ما ينص عليه هذا القانون.
د. تطبيقات على فكرة الآداب العامة:
يعتبر الاتفاق المخالف للآداب العامة باطلاً بطلاناً مطلقاً، ومن الأمثلة على ذلك الاتفاق على ارتكاب جريمة مقابل مبلغ من المال والاتفاق على إقامة علاقة جنسية غير مشروعة مقابل مبلغ من المال، كما يقع باطلاً الاتفاق المتعلق ببيوت البغاء كبيعه أو تأجيره..الخ، كما يقع باطلاً الاتفاق المتعلق بالمقامرة أو الرهان كبيع بيت يدار للمقارمة أو إيجاره، وقد نصت على ذلك المادة (864) من مشروع القانون الفلسطيني التي جاء فيها: "1. يكون باطلاً كل اتفاق خاص بمقامرة أو رهان. 2. ولمن خسر في مقارمة أو رهان أن يسترد ما دفعه خلال ثلاث سنوات من الوقت الذي أدى فيه ما خسره، ولو كان هناك اتفاقاً يقضي بغير ذلك، وله أن يثبت ما أداه بجميع الطرق".
مخلص إلى أن فكرة النظام العام والآداب العامة تتعلق بالمصالح الأساسية للمجتمع، وعليه فإن القواعد القانونية المتعلقة بها تعتبر قواعد آمرة لا يجوز للأفراد الاتفاق على ما يخالفها، وكل اتفاق يخالفها يقع باطلاً بطلاناً مطلقاً، والقاضي هو الذي يقوم بتحديد ما يتعلق بالنظام العام والآداب العامة من عدمه مستعيناً بالأفكار والمعتقدات السائدة في المجتمع وهو يضع في ذلك لرقابة محكمة النقص باعتبار هذه المسألة من مسائل القانون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق