تفسير القانون
يقصد بالتفسير إزالة الغموض وما قد يوجد من لبس في حكم القاعدة القانونية. فالمشرع يصيغ النصوص القانونية في عبارات موجزة قد تحتاج إلى توضيح وتفسير، كما قد يحدث تعارض بين النصوص القانونية أو تعرض حالة لا يوجد حكم لها مما يقتضي التدخل من خلال تفسير النصوص القانونية بهدف إزالة هذا التعارض أو إيجاد حكم لمسألة معينة. ويجود أنواع للتفسير كما يوجد مبادئ عامة تحكم تفسير النصوص القانونية، وندرس أنواع التفسير والمبادئ التي تحكم عملية تفسير في النقاط التالية:
أولاً: أنواع التفسير:
يوجد ثلاثة أنواع للتفسير حسب الجهة التي تتولى عملية التفسير، حيث ينقسم إلى تفسير تشريعي وتفسير قضائي وتفسير فقهي، ونشرح هذه الأنواع في النقاط التالية:
1- التفسير التشريعي:
تختص السلطة التشريعية بإصدار التفسير التشريعي، وهي تقوم بذلك عندما يوجد تشريع يكتنفه الإبهام والغموض. وقد يصدر التفسير التشريعي معاصراً لإصدار القانون وقد يصدر في وقت لاحق له. وحيث إن السلطة التشريعية هي التي تتولى عملية إصدار هذا التفسير فإنه يتمتع بنفس القوة القانونية التي للتشريع كما ينطبق من تاريخ نفاذ هذا التشريع ولا يعتبر ذلك تطبيقاً للتفسير بأثر رجعي لأن التفسير لا يتضمن قانوناً جديداً. ولا يجوز للتفسير أن يتضمن تعديلاً أو إضافة للتشريع لأن التفسير يهدف إلى إزالة الغموض الذي يكتنف التشريع.
2- التفسير القضائي:
يختص القاضي بتفسير القانون وهو بصدد تطبيقه على المنازعات المعروضة عليه، ولا يعتبر هذا التفسير ملزماً للمحكمة التي أصدرته ولا للمحاكم الأخرى، حيث لا إلزام على المحكمة ذاتها أو غيرها من المحاكم أن تأخذ بنفس التفسير في قضايا مماثلة. إلا أنه توجد حالة وحيدة يجب فيها على المحكمة أن تلتزم بما قررته محكمة النقض وهي الحالة التي تقرر فيها محكمة النقض نقض الحكم المطعون فيه أمامها لغير سبب مخالفة قواعد الاختصاص، ففي هذه الحالة تحيل محكمة النقض الدعوى إلى المحكمة التي أصدرته لكي تحكم في القضية من جديد بناءً على طلب الخصوم، ويتعين على المحكمة المحال إليها القضية ان تتبع حكم محكمة النقض في المسألة القانونية التي فصلت فيها، وقد نصت على ذلك الفقرتين الثالثة والرابعة من المادة (236) من قانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية الفلسطيني حيث جاء فيها: "3. فإن كان النقض لغير ذلك من الأسباب تحال الدعوى إلى المحكمة التي أصدرت الحكم المطعون فيه لتحكم فيها من جديد بناءً على طلب الخصوم. 4. على المحكمة التي أحيلت إليها الدعوى أن تتبع حكم محكمة النقض في المسألة القانونية التي فصلت فيها".
والقاضي عندما يقوم بعملية التفسير فإنه يتأثر بالظروف الواقعية المحيطة بالمنازعة المعروضة عليه، وقد يؤدي هذا إلى خروج القاضي عن المعنى المقصود من النص إذا وجد أن فيه ما يجافي العدالة وذلك تحت ستار التفسير.
3- التفسير الفقهي:
يختص فقهاء القانون بتفسيره في كتاباتهم ومؤلفاتهم وأبحاثهم وتعليقاتهم على النصوص القانونية، وليس للتفسير الفقهي أية قوة إلزامية إلا أن فائدته لا يمكن إنكارها حيث يساعد التفسير الفقهي القاضي في تفسيره للنصوص القانونية وفي تطبيقه لها، كما يساعد التفسير الفقهي المشرع حيث يتوجه المشرع من خلاله ويقرر تعديلاً أو حذفاً أو إضافة للقواعد القانونية التشريعية.
ثانياً: المبادئ العامة في تفسير النصوص القانونية:
يلجأ القاضي إلى التشريع كمصدر أول للقانون ليحكم في النزاع المعروض عليه، فإذا وجد نصاً يحكم هذه المسألة واستدعى الأمر أن يقوم بتفسيره فإنه يتعين عليه الالتزام بمجموعة من المبادئ في عملية التفسير، وتمثل هره المبادئ بالآتي:
أ. التقيد بعبارة النص عندما تكون واضحة:
يجب على القاضي في تفسيره للنصوص القانونية التقيد بعبارة النص طالما كانت واضحة، وهذا يعني التقيد بقصد المشرع لا بألفاظ النص، حيث قد يعتري ألفاظ النص خطاً مادياً يغير من قصد المشرع، وهذا هو المقصود من التقيد بعارة النص لا بلفظه، حيث العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
ب. الاعتداد بروح النص وفحواه:
إن التقيد بعبارة النص عند تفسير القانون لا يعني إهمال رح النص وفحواه، حيث يجب على القاضي أن يعتد بروح النص وفحواه عند قيامه بعملية التفسير، وهذا ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة الأولى من مشروع القانون المدني الفلسطيني، حيث جاء فيها: "تسري نصوص هذا القانون على جميع المسائل التي تتناولها في لفظها أو في فحواها".
ويمكن الاستدلال على روح النص وفحواه من خلال ما يعرف بمفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.
* مفهوم الموافقة:
يقصد بمفهوم الموافقة (دلالة اللفظ على أن حكم المنطوق به ثابت للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة الحكم التي تفهم بمجرد فهم اللغة وبأدنى نظر من غير حاجة إلى اجتهاد شرعي، وذلك سواءً أكان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنصوص عليه لقوة العلة فيه، أم مساوياً له للتساوي بينهما في العلة). فبقتضى مفهوم الموافقة يتم قياس ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص لاشتراكهما في العلة التي على أساسها وجد الحكم المنصوص عليه. ومن الأمثلة على ذلك القاعدة القانونية التي تقضي بأن القاتل لا يرث المقتول لأن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، بينما لم يرد نص يبين حكم قتل الموصى له للموصي لكي يحصل على الشيء الموصى به، فتقاس هذه الحالة التي لم يرد فيها نص على الحالة الأولى التي ورد فيها نص والمتعلقة بالميراث بحيث إذا قتل الموصى له الموصي فإنه يحرم من الشيء الموصى به لتوافر نفس العلة وهي استعجال وفاة الموصي للحصول على الشيء الموصى به.
* مفهوم المخالفة:
يقصد بمفهوم المخالة (دلالة اللفظ على أن نقيض حكم المطوق به ثابت للمسكوت عنه لعدم توافر قيد من قيود المنطوق المعتبرة فيه). فبمقتضي مفهوم المخالة تعطي حالة لم ينص عليها المشرع عكس حكم الحالة التي نص عليها المشرع نظراً لاختلاف العلة في الحالتين. ومن الأمثلة على ذلك القاعدة القانونية التي تقضي بأنه إذا عين ميعاد للقبول يلتزم الموجب بالإبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد، فبمفهوم المخالفة إذا لم يعين الموجب ميعاداً للقبول فيمكنه العدول عن إيجابه.
علاوة على ما تقد من مبادئ لا يجوز التوسع في تفسير النصوص الاستثنائية وخاصة القوانين الجنائية. حيث يجب أن يفسر القانون الجنائي تفسيراً ضيقاً ويمتنع فيه القياس لأن القانون الجنائي يحكمه مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وعليه إذا ارتكب شخص فعل غير مجرم فلا يجوز معاقبته قياساً على فعلا آخر مجرم يتشابه معه. أخيراً إذا تعارض المعنى المستفاد من عبارة النص مع المعنى المستفاد من روح النص يغلب المعنى المستفاد من عبارة النص على اعتبار أن المعنى المستفاد من عبارة النص أو ألفاظه أقوى من المعنى المستفاد من روح النص وفحواه.
إلغاء القانون
يقصد بإلغاء القاعدة القانونية أو نسخها إنهاء سريانها ومنع العمل بها ابتداءً من هذا الإنهاء. ويتم إلغاء القاعدة القانونية لاستبدالها بقاعدة قانونية جديدة تواكب التطور الحادث في المجتمع أو للاستغناء عنها بشكل كامل. ويمكن أن تلغي القاعدة القانونية أياً كان مصدرها، وعليه فإن السلطة المختصة بإلغاء القاعدة القانونية تختلف بحسب مصدر القاعدة القانونية موضع الإلغاء. كما أن لإلغاء القاعدة القانونية أنواع فقد يكون الإلغاء صريحاً وقد يكون ضمنياً. وعليه تتطلب دراستنا لإلغاء القاعدة القانونية دراسة السلطة المختصة بالإلغاء ثم أنواع الإلغاء، وذلك في النقاط التالية:
أولاً: السلطة المختصة بإلغاء القاعدة القانونية:
1- إلغاء القواعد القانونية التشريعية:
تملك إلغاء القاعدة القانونية التشريعية السلطة التي أصدرتها كما تملك إلغائها السلطة الأعلى منها لأن من يملك الأكثر يملك الأقل. وعليه فإن القاعدة القانونية التشريعية تلغيها قاعدة قانونية تشريعية من درجتها أو من درجة أعلى منها. وهذا يعني أن التشريع الأساسي لا يلغي إلا بتشريع أساسي، والتشريع العادي لا يلغى إلا بتشريع عادي أو بتشريع أساسي، والتشريع الفرعي يلغي بتشريع فرعي أو بتشريع عادي أو بتشريع أساسي.
2- إلغاء القواعد القانونية غير التشريعية:
يقصد بالقواعد القانونية غير التشريعية القواعد المستمدة من مصدر آخر غير التشريع، فقد يكون مصدر القاعدة القانونية مبادئ الشريعة الإسلامية، وقد يكون مصدرها العرف وقد يكون مصدرها مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
فإن كان مصدر القاعدة القانونية مبادئ الشريعة الإسلامية فإنها تلغى بتشريع لأن التشريع أعلى مرتبة من مبادئ الشريعة الإسلامية وفقاً لما جاء في الفقرة الثانية من المادة الأولى من مشروع القانون المدني الفلسطيني. إذا كان مصدر القاعدة القانونية العرف فإنها تلغى بقاعدة قانونية عرفية جديدة تغير من القاعدة الأولى أو بتشريع باعتباره أعلى مرتبة من العرف أو بقاعدة قانونية مصدرها مبادئ الشريعة الإسلامية. وإذا كان مصدر القاعدة القانونية مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة فإنها تلغى بقاعدة قانونية جديدة مصدرها مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، أو بقاعدة قانونية عرفية أو بقاعدة قانونية مصدرها مبادئ الشريعة الإسلامية أو بقاعدة قانونية تشريعية.
ثانياً: أنواع الإلغاء
تنص المادة (8) من مشروع القانون المدني الفلسطيني على أنه: "لا يجوز إلغاء نص تشريعي أو وقف العمل به إلا بنص تشريعي لاحق ينص صراحة على ذلك أو يشتمل على ما يتعارض مع نص التشريع القديم، أو ينظم موضوعه تنظيماً جديداً".
ويتضح من هذا النص أن للإلغاء نوعان إلغاء صريح وإلغاء ضمني، وفيما يلي نوضح ذلك.
1- الإلغاء الصريح:
يتحقق الإلغاء الصريح في القواعد القانونية التشريعية فقط، حيث ينص المشرع صراحة في تشريع جديد على إلغاء التشريع القديم أو إلغاء كل ما يتعارض معه أو يخالفه، وفي هذه الحالة الأخيرة يلغى كل ما يتعارض مع التشريع الجديد سواء كان مصدر القاعدة القانونية القديمة التشريع أو غيره من المصادر.
2- الإلغاء الضمني:
يكون الإلغاء ضمنياً عندما لا ينص عليه صراح وإنما يستفاد من تعارض القاعدة القانونية الجديدة مع القاعدة القانونية القديمة أو من تنظيم التشريع الجديد لموضوع سبق وأن نظمه التشريع القديم، وهذا ما سنبينه حالاً.
أ. تعارض التشريع الجديد مع التشريع القديم:
يحدث ذلك عندما تصدر قاعدة قانونية تشريعية تتعارض مع القاعدة التشريعية القديمة، حيث يستفاد من ذلك ضمناً نسخ القاعدة القانونية التشريعية القديمة لاستحالة تطبيق القاعدتين معاً. وتنطبق هذه الحالة على كل القواعد القانونية أياً كان مصدرها، فمثلاً إذا تعارضت قاعدة قانونية عرفية جديدة مع قاعدة قانونية عرفية قديمة فإن القاعدة القديمة تلغى ضمناً، هذا مع مراعاة التدرج في القوة بين مصادر القانون وفقاً للترتيب الذي جاء في المادة الأولى من مشروع القانون المدني الفلسطيني، حيث لا يمكن لقاعدة قانونية مصدرها العرف أن تلغي قاعدة قانونية مصدرها مبادئ الشريعة الإسلامية والعكس غير صحيح.
والتعارض بين القاعدة الجديدة والقاعدة القديمة قد يكون كلياً وقد يكون جزئياً. فإذا كان كليا تلغي القاعدة القديمة بشكل كامل، أما إذا كان جزئياً فيلغي من القاعدة القديمة الجزء الذي يتعارض مع القاعدة الجديدة.
ويتحقق الإلغاء الضمني في حالة التعارض بين القاعدة الجديدة والقاعدة القديمة عندما تحدد القاعدتين في الصفة ،أي عندما تكون كلاً من القاعدة الجدية والقاعدة القديمة تضع أحكاماً عامة أو تضع أحكاماً خاصة. أما إذا اختلفتا في الصفة بأن كانت إحداهما تضع حكماً عاماً ولأخرى تضع حكماً خاصاً أو العكس فيقتضي الأمر التوضيح على النحو الآتي:
* التعارض بين حكم قديم عام وحكم جديد خاص:
تفترض هذه الحالة أن تكون القاعدة القانونية القديمة تضح حكماً عاماً والقاعدة القانونية الجديدة تضع حكماً خاصاً. ففي هذه الحاة يبقى الحكم القديم العام سارياً إلا فيما خصصه الحكم الجديد، حيث يلغى الحكم الخاص ما يعارضه في النص العام، وهذا ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (9) من مشروع القانون المدني الفلسطيني التي جاء فيها: "النص الخاص يلغي ما يعارضه في النص العام"، وهذا يعني أن الحكم الخاص يحد من مدى عموم الحكم القديم العام فيما يتعلق بما خصصه الحكم الجديد الخاص. فمثلاً إذا كان القانون القديم ينظم الشركات التجارية ثم صدر قانون جديد ينظم شركة التضامن، فإن القانون القديم يبقى سارياً على كل أنواع الشركات التجارية ماعدا شركة التضامن حيث يسري عليها القانون الجديد.
* التعارض بين حكم قديم خاص وحكم جديد عام:
تفترض هذه الحالة أن تكون القاعدة القانونية القديمة تضح حكماً خاصاً والقاعدة القانونية الجديد تضع حكماً عاماً. ففي هذه الحالة يبقى الحكم القديم الخاص سارياً، باعتباره استثناء على القاعدة العامة التي جاءت في الحكم الجديد العام، حيث لا يمكن للحكم العام أن يلغي الحكم الخاص، بل يلغي الحكم الخاص بحكم خاص مثله تعارض معه، وقد نصت على ذلك الفقرة الأولى من المادة (9) من مشروع القانون المدني الفلسطيني التي جاء فيها: "لا يجوز إلغاء قانون خاص بموجب نص يعارضه في قانون عام صدر بعده إلا إذا صرح بذلك". ويستفاد من هذا النص أن الحكم العام يمكن أن يلغي الحكم الخاص إذا تضمن نصاً صريحاً على ذلك ونكون في هذه الحالة أما إلغاء صريح وليس إلغاء ضمني.
ومن الأمثلة على حالة التعارض بين حكم قديم خاص وحكم جديد عام أن يوجد قانون خاص بالمعلمين يحدد ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات ثم يصدر قانون جديد ينظم أحال الموظفين بشكل عام، فيسري القانونيين معاً في هذه الحالة بحيث يبقى القانون القديم الخاص سارياً على المعلمين والقانون الجديد العام يسري على كل الموظفين ما عدا المعلمين.
ب. تنظيم التشريع الجديد لموضوع ينظمه التشريع القديم:
تفترض هره الحالة للإلغاء الضمني قيام المشرع بتنظيم موضوع بتشريع جديد سبق وأن نظمه التشريع القديم. ففي هذه الحالة يلغى التشريع القديم ضمنياً وبشكل كلي حتى ولو يوجد تعارض بين بعض نصوص التشريع الجديد والتشريع القديم. ويرجع السبب في ذلك إلى أن قيام المشرع بتنظيم نفس الموضوع الذي نظمه التشريع القديم بتشريع جديد يدل على أن أسس ومبادئ التشريع الجديد تختلف عن أسس ومبادئ التشريع القديم مما يقتضي إلغاء التشريع القديم بالكامل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق